قد تكون الجامعة العربية بشكلها الحالي أفضل للعرب في مكافحة كورونا من الهدف الأساسي الذي أُنشئت من أجله، وهو الدفاع عن القضايا العربية الأساسية ومنها قضية فلسطين.
نعم لا تندهش، عد إلى تاريخ الجامعة العربية وإنجازاتها، وستجد أن هذا أفضل دور لها.
عندما أُنشئت الجامعة العربية قبل 75 عاماً، وبالتحديد في 22 مارس/آذار 1945، تاريخ توقيع ميثاقها العام في البهو الرئيسي لقصر «الزعفران » بالقاهرة، وقت أن كانت مصر خاضعة للحكم الملكي لم يكن هناك الكثير من المنظمات الدولية الإقليمية الحالية.
لم يكن هناك الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الإفريقي، والآن أصبح الاتحاد الأوروبي قوة أساسية تعلو الدول الأوروبية وتوبخها، وحتى الاتحاد الإفريقي أصبحت نجاحاته تثير الأسى على الجامعة العربية.
فمن بين المنظمات الدولية الإقليمية فإن الجامعة العربية قد تكون صاحبة نصيب الأسد في الانتقادات التي تُوجّه لها من قبل أبناء منطقتها.
هذه الانتقادات ليست فقط نابعة من أن الغالبية يرون أنها لم تحقق المطلوب منها، ولكنّ جزءاً من المشكلة أن التوقعات المكبوتة من الجامعة العربية أكبر في الأغلب من كل المنظمات المشابهة.
جزء من أزمة الجامعة العربية مقارنة بالمنظمات الشبيهة أن الرابطة التي تجمع العرب أكبر من الروابط الإقليمية المماثلة.
فالأوروبيون لا تجمعهم لغة مشتركة ولا المشاعر المشتركة كالعرب، ولا توجد فكرة قومية داعبت خيال الأوروبيين كالقومية العربية.
بل إن فكرة الاتحاد الأوروبي بدأت كسوق مشتركة بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف تجنيب القارة المزيد من الحروب.
أما العرب، فحتى من يتهكم على فكرة العروبة، تراه في الأزمات يتساءل أين العرب، وفي أوقات يقول لو اتحد العرب لهزموا إسرائيل، وهكذا.
في العقل الباطن الجمعي العربي فإن الجامعة العربية بشكل أو بآخر تقارن بالقوة المركزية التي يتطلع إليها دوماً العرب والمسلمون كقائدة وجامعة لهم.
العقل الجمعي في هذه المنطقة مهما كانت الانشقاقات يميل للبحث عن قوة قائدة، من الخلافات الراشدة والأموية والعباسية إلى الأيوبيين والمماليك والمرابطين والموحدين، مروراً بالدولة العثمانية، وصولاً إلى مصر الناصرية وصدام حسين.
تبدو الجامعة العربية بديلاً مخيباً للآمال للغاية مقارنة بهذه القوى.
لكن المشكلة أن الجامعة العربية لا تعاني فقط من فجوة كبيرة بين قوة الرابطة العربية وبين إمكاناتها. بل إن أداء الجامعة العربية مخيب للآمال حتى بمعايير المنظمات الدولية المعنية بإقاليم يجمع بين سكانها روابط أقل من الرابطة العربية.
أما الأمناء العامون وغيرهم من المسؤولين بالجامعة والمتعاطفون معها على مر العصور، فإن حجتهم أن هذه جامعة الدول العربية وليست جامعة الشعوب العربية، وأنها انعكاس للنظام السياسي العربي، وبالتالي فإنهم يعزون قصورها الذين لا ينكرونه إلى الأنظمة العربية.
وكلامهم قد يكون صحيحاً، ولكن غير دقيق.
نعم الجامعة العربية هي انعكاس بشكل أو بآخر للنظام العربي، الذي كان سيئاً دوماً، واليوم هو في أسوأ أحواله، ولكن تظل لدى الجامعة مساحة للمناورة ليكون أداؤها أفضل قليلاً من هذا النظام، وألا تستسلم لانحداره.
بل إن أصالة المؤسسات تظهر في قدرتها في العمل في أسوأ الظروف.
فأول أمين عام للجامعة العربية عبد الرحمن باشا عزام لم يتعامل مع منصبه بشكل بيروقراطي، بل كان جريئاً ومقداماً يسبق الدول العربية في قرارته، ورفض عزام أن يكون عملهبيروقراطياً سياسياً دبلوماسياً فقط كما كان يريد بعض الحكام العرب.
ففي حرب النكبة عام 1948، صدر عن الجامعة العربية قرار بتشكيل كتائب المقاومة الشعبية التي كان يقودها القائد الشهيد البطل أحمد عبدالعزيز، قوامه ضباط عرب أخذوا إجازات من جيوشهم.
ولم تقتصر جهود عبد الرحمن باشا عزام على دعم القضية الفلسطينية بل أثار قضية استقلال دول المغرب العربي حتى أنه طرح الأمر في قلب باريس حتي قالت عنه الصحف الفرنسية إن هذا رجل مخرف جاء لباريس ليتكلم عن شعوب خاضعة للسيادة الفرنسية والاتحاد الفرنسي وأن على الحكومة الفرنسية أن تلزم هذا الرجل حده أو تطرده من بلادها.
كما أسهم في تأييد استقلال إندونيسيا والعديد من الدول الأخرى، رغم أن الدول العربية كانت خاضعة للنفوذ الغربي.
قاد عزام الجامعة العربية بروح المناضل وليس الدبلوماسي، كانت الجامعة العربية أقرب في ذلك الوقت لحيوية مؤسسات المجتمع المدني.
والمفارقة أن المصادرة لهذه الروح تمت بعد إقصاء الملكية في مصر وصعود الضابط جمال عبدالناصر للسلطة، وهو العروبي الذي نادى بالوحدة بين المحيط والخليج.
ولكن الوحدة التي أرادها عبدالناصر كان المسؤولون عن تنفيذ رؤيته لها هم رجال الأمن والمخابرات والدبلوماسية، وليسوا سياسيين ولا مناضلين أو حزبيين.
وسوف يؤدي اعتماد عبدالناصر على البيروقراطية في تحقيق أحلامه بالقومية العربية والاستقلال الوطني في الجامعة العربية وفي مصر نفسها، إلى نتيجة غريبة.
وهي أنه ستبقى البيروقراطية وتزول هذه المبادئ الراقية التي آمن بها عبدالناصر.
وبعد النشأة الحماسية على يد عبدالرحمن باشا عزام، سوف تتحول الجامعة العربية إلى برج عاجي للبيروقراطية العربية، مكاناً لمكافأة الدبلوماسيين المطيعين وساحة لمساومات الأنظمة العربية أكثر منها محطة للتعبير عن أحلام الشعوب أو منصة تقود نهضة الأمة.
فتتوعد الجامعة إسرائيل بالحرب إذا كانت مصر الناصرية هي التي تقود العمل العربي المشترك، ثم لا تلبث أن تطرد مصر الساداتية بعد إبرامها معاهدة السلام مع إسرائيل، مع صعود العراق الصدامي وسوريا الأسدية.
وهي نفس الجامعة التي سيعلن من منبرها البيروتي بعد عقود من وعيدها بالحرب مبادرة السلام العربية على لسان صاحبها الأمير عبدالله، عندما كان ولي عهد السعودية، قبل أن يصبح ملكاً.
ومع الوقت ازداد الوزن النسبي لدول الخليج العربية بفضل كثرة أصواتهم الستة في مجلس الجامعة، وتحالفاتهم مع دول مثل مصر المباركية والمغرب والأردن الملكيتين، وإغراءاتهم المالية للدول الصغرى، لتصل الأمور إلى أن تقدم الجامعة العربية الشرعية للحرب الأمريكية لتحرير الكويت وضرب العراق.
وهو أمر سيتكرر في الحرب الغربية على القذافي، حيث سيكون قرار مجلس الأمن بالتدخل بناء على طلب من الجامعة العربية.
تبدو أهمية الجامعة هنا شبيهة بالشرعية التي كان يمنحها الخلفاء العباسيون لحكام الأمصار، في قرون ضعفهم الأربعة الأخيرة (أو حتى بعد انهيار الخلافة العباسية على يد المغول عندما أصبحوا ألعوبة في أيدي سلاطين المماليك)، أو تشبه السلاطين العثمانيين في نهاية عصور دولتهم الذين كانت تنتزع منهم فرمانات من قبل الدول الاستعمارية أو حكام الولايات المتمردين.
لا يحتاج أحد لقوة الجامعة العربية، ولكن يحتاجون أحياناً لشرعيتها الشكلية.
الدول الكبرى، وحتى الأمم المتحدة، يحتاجون لتوقيع ممثلة العرب الرسمية خليفة خلفاء المسلمين.
ورغم أن مجلسها نظرياً يمثل 22 زعيماً غير منتخب، فإنه فعلياً وتاريخياً يعبر عن تحالف بضع دول متنفذة، بينما الأغلبية تفضل التصويت للأقوى والأغنى بهدوء أو الصمت تماماً.
في عهد الربيع العربي، فوجئت الجامعة بما يحدث في تونس، ولكن سرعة الأحداث جعلتها ترحب بالتغيير بعد أن تم.
لكن في مصر وقفت مرتبكة، والأحداث تدور على عتبة مقرها القابع في ميدان التحرير معقل الثورة المصرية، وخاصة أن عمر موسى أمينها العام في ذلك الوقت كان يضع قدميه في الجانبين، فهو محسوب على النظام، ولكنه تاريخياً ينظر إليه على أنه منافس لمبارك، مقبول من الموالاة والمعارضة معاً.
وعلى عادتها عبّرت الجامعة العربية عن موقفها بعد حسم الوضع لصالح ثورة يناير، بعد ما عبرت عن مواقف مائعة خلال الثورة نفسها.
ولكن في الثورتين السورية والليبية حدث تقاطع لافت بين مصالح الثورات العربية، وبين مصالح دول الخليج المعادية لنظامي الأسد، والقذافي، فأخرجت الجامعة العربية القرارات الأقوى في تاريخها ضد أعضائها، فأعطت الإذن للعملية العسكرية الغربية التي شرعنها مجلس الأمن لحماية الثورة الليبية من الإبادة التي حاول القذافي تنظيمها بطائراته.
وفي سوريا جمّدت أنشطة دمشق بعدما أفشل نظام الأسد جهود بعثتها لمراقبة وقف إطلاق النار بينه وبين الثوار في بداية الثورة (البعض يرى أن الدول الخليج سارعت لإنهاء مهمة البعثة).
اليوم الجامعة العربية أصبحت أكثر من أي وقت مضى أداة لثلة من الأنظمة العربية، جامعة الثورة المضادة، التي انتصرت في القاهرة مقرها بدعم خليجي. يريد محور القاهرة الرياض أبوظبي استخدام الجامعة واجهة لشرعنة جهود الإجهاض على بقايا الربيع العربي.
ولكن هناك أصوات خافتة متحفظة، (مثل قطر ودول المغرب العربي) بسبب بقية ولاء للربيع العربي أو تعاطفاً مع الإسلام السياسي المعتدل أو خوفاً من تغول واستقواء الثلاثي مصر والسعودية والإمارات على مصالحها.
ولكن مع كل هذه الخلافات يزداد عجز الجامعة تجاه القضية التي نشأت من أجلها قضية فلسطين، بعدما تحول أبرز أعضائها من متخاذلين إلى متواطئين وشركاء في صفقة القرن، حتى إنهم لم يخجلوا من تأييد الصفقة من على منابرهم في اجتماع وزراء الخارجية الذي خصص لإدانتها.
مع ازدياد استبداد وتشرذم النظام العربي يزداد بُعد الجامعة عن الشارع العربي، ويزداد أداؤها البيروقراطي.
والحجة الموجودة أنها انعكاس للنظام السياسي العربي.
قد يكون هذا صحيحاً، ولكن الجامعة العربية إذا كانت محكومة في السياسة بالنظام العربي، فإنه في مجالات أخرى يمكن أن تتحرر منه.
يمكن أن تصبح الجامعة العربية ومنظماتها بيت خبرة فنياً عربياً تحتاجه الدول العربية في أشياء أكثر فائدة من مجرد الحصول على ختم شرعيتها.
يمكن أن تكون الجامعة العربية تُجمّع للكفاءات العربية، وأن تركز على تقديم حلول للأزمات والمشكلات الصحية والاقتصادية والزراعية العربية عبر العلم وليس الاجتماعات المكررة الطابع.
يمكن أن تستغل الجامعة العربية “البرستيج” الذي يتوفر لها لإنشاء جامعات ومراكز أبحاث مرموقة، تفيد العرب جميعاً، وتستطيع أن تحصل على التمويل من الطلاب الأثرياء أو تبرعات أغنياء العرب، ولها في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري التابعة لها أسوة حسنة، حيث تحولت إلى مؤسسة التعليم الرئيسية في المجال البحري، وبيت الخبرة الأكبر في هذا المجال عربياً تحت رعاية مصرية حكومية.
يمكن أن تركز الجامعة على القضايا غير الخلافية وغير المكلفة، يمكن أن تبدأ بمشروعات ومؤسسات يحتاجها المجتمع العربي، ويمكن تمويلها تجارياً، أو وكالات فنية عابرة للحدود.
فوسط التدهور الرهيب في مستوى التعليم العربي، فإن إنشاء نظيرعربي لجامعة هارفارد بعيداً عن الأمراض العربية التقليدية سيجعلها تشهد إقبالاً هائلاً يمكن أن يوفر التمويل لها، ويمكن أن تكون بذرة لنهضة إذا حيدت ولو جزئياً عن أمراض البيروقراطية والمجاملات والاستبداد والاهتراء المحيط.
حافظت المؤسسات العلمية السوفييتية على مساحة كبيرة من الحرية، وأنصفت في أبحاثها التاريخية المجاهدين المسلمين ضد القياصرة رغم أنف البلشفية والحزب الشيوعي الحاكم، وهذا الدور الأنسب للجامعة العربية حالياً، أن تكون مؤسسة تبث النور بهدوء في ظل هذه الفوضى والظلام الذي يسود المنطقة لا أن تجمل هذا الظلام.
يمكن أن تصبح الجامعة مخزناً لتراكم إيجابي في دراسات وقيم حقوق الإنسان والعلوم السياسية والاقتصادية والعقلانية والإصلاح الديني، بعيداً عن جنون الاستبداد العربي والفوضى التي خلّفها الربيع العربي، وبطريقة هادئة حتى لا تستفز الطغاة العرب.
لو أن الجامعة العربية أنشأت جامعة طبية مرموقة ويعلم الناس أنها محررة من المجاملات والبيروقراطية العربية التقليدية لَأقبل عليها الجميع.
ولو امتنعت عن الوساطات لزاد جنون الأثرياء عليها لدفع أكبر قدر من الأموال لإدخال أبنائهم فيها، مثلما يفعلون مع مدارس الإرساليات المسيحية والجامعات الأجنبية، ولكان يمكن لهذه الجامعة الطبية المفترضة أن تشارك في جهود مكافحة كورونا بدلاً من أن يتفاخر المسؤولون العرب بالإعلان أنهم سوف يشترون دواء أو لقاح كورونا من أي دولة ستخترعه أولاً، سواء كانت الصين أو ألمانيا أو أمريكا.
لكن مشكلة الجامعة العربية ليست أنها انعكاس للنظام السياسي العربي فقط، بل إنها انعكاس للنخب العربية الحاكمة، بشكلانيتها، وبيروقراطيتها، وحتى انشقاقاتها.