الدكتورة بلقيس

الدكتورة بلقيس… ما خفي من حياة القاص اليمني محمد عبدالولي (شاهد)

محمد جازم- المشاهد

تظل حياة المشاهير من فنانين وعباقرة وكتاب، مثار فضول القاعدة العريضة من الناس.وفي حياة معظم الكتاب، جوانب مشتركة تهم المجتمع، وتستدعي الالتفات إليها، خصوصاً من لم يتمكن منهم من كتابة سيرتهم الذاتية، ومنهم رائد القصة القصيرة محمد عبدالولي (1973-1939) الذي لم يمتد به العمر الكافي الذي يؤهله لكتابة سيرته الذاتية، لذلك فإن الكتابة عنه ستبقى أمل الأجيال المتلاحقة المحبة لاكتشاف أين تكمن العبقرية؟ ثم ما هي ملامحها؟ علماً أن كل ما نعرفه عنه هو رؤوس أقلام.محمد عبدالولي القاص الفلتة، كان أيضاً مناضلاً وصاحب رأي.. تعرض للسجن والتعذيب والملاحقة، وجراء ذلك عانى وتألم وحاول الهروب، فيما يعتقد أنه الأكثر صوابية، معتقداته التقدمية ورؤاه الفلسفية. تعرض لكل ما تعرض له جيله، ولازالت حياته وطريقة استشهاده محل جدل وتساؤل: من قتل محمد عبدالولي، وشرد أسرته ويتّم أطفاله؟لم يهنأ أيوب، ابنه البكر، بالحياة.. عاش في القرية بعد موت والده، ولم يحصل على حقه في أن يكون له أب، كما أنه لم يحصل على حقه في التعليم والرعاية، مثل الكثيرين من أبناء المثقفين الذين لديهم رأي ومغايرة.عاش أيوب على الهامش، فقد رأيته يحرث الأرض، ويسقي الزرع، ويبذل جهداً مضاعفاً ليعيش حياة كريمة. وقد أدى استشهاد والده إلى ضياعه وتشرده وموته، رغم محاولات أسرته الحثيثة لرعايته، إلا أن فقد

بلقيس، هي الابنة الثانية لمحمد عبدالولي، من زوجته الأولى، لكنها لحقت به قبل أن يكتمل حلم أطفالها.”لم يبق من ذرية بعض المبدعين أبناء يحملون أسماءهم، فهذا الشهيد محمد أحمد عبدالولي، الذي توفي ابنه أيوب بعده، وقبل بضع سنوات رحلت ابنته الدكتورة بلقيس، صاحبة أول صيدلية تفتحها امرأة في تعز، بسبب مرض عضال 

 

والده في ظروف غامضة، أثّر عليه.وبعد أن انتقل إلى منزل جده في مدينة تعز، في 1994، ومحاولة البحث له عن دواء، إلا أن الموت عاجله.ولعل الصورة التي أتذكرها لأيوب، هي أنه كان طويلاً، ويعاني من صعوبة في الرؤية، وإذا مشى يذهب بدون أن يشعر إلى الجنب، مع أنه كان حين يسير يمشي في وضع عمودي، لكن تدهور صحته جعله يمضي بخطوات منحرفة تذهب باتجاه اليمين غصباً.
الصيدلانية بلقيس
بلقيس، هي الابنة الثانية لمحمد عبدالولي، من زوجته الأولى، لكنها لحقت به قبل أن يكتمل حلم أطفالها.”لم يبق من ذرية بعض المبدعين أبناء يحملون أسماءهم، فهذا الشهيد محمد أحمد عبدالولي، الذي توفي ابنه أيوب بعده، وقبل بضع سنوات رحلت ابنته الدكتورة بلقيس، صاحبة أول صيدلية تفتحها امرأة في تعز، بسبب مرض عضال داهمها، لتكتمل بذلك سيرة الوجع التي عاشها الشهيد في حياته القصيرة”.هكذا كتب عنها الكاتب منصور السروري، في مقالة نشرها عن سيرة والدها الإبداعية محمد عبدالولي، في موقع “الاشتراكي نت”.عرفت بلقيس عبدالولي التي ولدت في قرية حارات (1962-2005)، في طفولتي المبكرة، معرفة بسيطة لا تتجاوز رؤيتها لعدت مرات، تبخرت من الذاكرة بعد ذلك؛ لأنها سافرت إلى صنعاء بعد أن أكملت الإعدادية في مدرسة الإرشاد بالقرية، وفي صنعاء عاشت في كنف عمها عبدالفتاح عبدالولي، الذي كفلها بعد موت والدها، وسجلها في المدرسة الأهلية. وأثناء سفره إلى فرنسا لدراسة الماجستير، انتقلت إلى منزل درهم عبدالفتاح، زوج عمتها.لم يتبقَّ في ذاكرتي منها سوى الاسم -لأنها تكبرني بـ10 سنوات تقريباً- أو بعض الصور المتحركة التي تسربت خياراتها في ذاكرتي، وهي ترافق أيوب إلى العمل في الحقول، حاملة على رأسها قفة أو جرة، مثل بقية بنات القرية في تلك المرحلة.حين صعدت روح بلقيس محمد

تعرفت بلقيس، قبل السفر للدراسة -عبر أقاربها- على الطبيب اليمني عبدالله الظرافي، الذي افتتن بذكائها وجمال طلعتها وخفة روحها.. تزوجا وأكملا دراستهما في إحدى الجامعات هناك، ثم عادا إلى اليمن، ليستقرا في تعز.وكانت بلقيس تعمل صباحاً في المستشفى الجمهوري الذي تذهب إليه بعد أن توزع الأولاد على المدارس، وعند العصر تقود سيارتها لتقف خلف الخزانة الزجاجية في “صيدلية بلقيس” التي افتتحتها في عقبة شارع جمال

عبدالولي، إلى بارئها، شعرت أنني فقدت واحدة من أنبل الأهل الذين شكلوا جزءاً من ذكريات طفولتي، قبل أن تصاب بمرض فتاك يسمى “الذئبة الحمراء”، وهو مرض نادر، لكنه خبيث ومفاجئ.تخرجت من إحدى جامعات الاتحاد السوفيتي. لعلها ذهبت لتتبع خطوات والدها الشهيد، الذي درس هناك بداية ستينيات القرن العشرين، وهو يحمل بين جوانحه كل إرث التاريخ الإنساني الذي حرضه على الكتابة المعجونة بروح الإنسان اليمني المهاجر في مراسي العالم، والمكافح في وطن هو عشقه الأول والأخير.


قبل اكتمال الحلم


تعرفت بلقيس، قبل السفر للدراسة -عبر أقاربها- على الطبيب اليمني عبدالله الظرافي، الذي افتتن بذكائها وجمال طلعتها وخفة روحها.. تزوجا وأكملا دراستهما في إحدى الجامعات هناك، ثم عادا إلى اليمن، ليستقرا في تعز.وكانت بلقيس تعمل صباحاً في المستشفى الجمهوري الذي تذهب إليه بعد أن توزع الأولاد على المدارس، وعند العصر تقود سيارتها لتقف خلف الخزانة الزجاجية في “صيدلية بلقيس” التي افتتحتها في عقبة شارع جمال، الشارع المؤدي إلى “المركزي”، قلب مدينة تعز.. إلا أنها كانت أحياناً تترك عاملاً لمساعدتها، بسبب انشغالها في تدريس أبنائها ومتابعتهم، وقد رأيت أنها كانت تبذل جهداً فوق طاقتها، لأنها بذلك جسدت مفهوم التعليم كنافذة للرقي الحضاري والتقدم، وهو تطرف حميد ورثته من جدها أحمد عبدالولي، فهو من جيل الأستاذ النعمان الأب، الذي راهن على التعليم كأساس لانتقال اليمن إلى العصر الحديث، وكذلك تأثرت المرحومة بوالدها في ما يخص التعليم كاستراتيجية وهدف، وذلك كما يبدو من رحلته التعليمية في اليمن وإثيوبيا ومصر وروسيا… وكذلك من أعمامها الذين كان جميعهم متعلمين. فقد كانت حريصة كل الحرص على أن يحرز أولادها المراكز الأولى في الدراسة، وكانت تؤمن بأن ذلك لا يأتي بالمجاملات والمحسوبيات، وإنما بالسهر والمثابرة والعزيمة والإصرار.أتذكر أنني زرتها كثيراً في الصيدلية، إما لأخذ علاج، أو للسلام عليها.

وفي زيارتي الأولى لبيتها استقبلتني بحفاوة، وعرفتني على أبنائها.بعد انقطاع طويل، شعرت بأنني ألتقيها لأول مرة.. قدمت لي نادر، ابنها الذي ولد في روسيا، وقالت هذا يشبه جده، ثم قدمت محمد وحسام وحنين… قلت لها: حنين استلهمتِ اسمها من مجموعة الوالد: “شيء اسمه الحنين”، قالت نعم، ثم أردفت، وهي تبتسم، والآن كلهم حنحنوا.. ضحكنا.. وتعني أن الكثيرين سموا بناتهم حنين.أثناء مرض ابنتي غيد، التي لم يكن عمرها قد تجاوز الشهرين، جاءت إلى مستشفى “النقطة الرابعة”، في تعز، وتعرفت على الأطباء المناوبين بكل نبل، لأنها من هذا النسيج الطبي، ولولا جهودها لكان الأمر ذهب إلى مكان آخر. يومها أحسست بفيض حنانها، فقد زارت كل الأطفال الموجودين بالغرفة، لكنهم -ويا للأسف- تساقطوا واحداً تلو الآخر، وتم لفهم من قبل ذويهم في بطانيات وخرق بالية، ثم توجهوا بهم إلى المقابر، وسط بكاء مكتوم من أمهاتهم اللواتي لا حول لهن ولا قوة. وكنت كلما تواصلت معها في تلك الأثناء، تسألني عن أخبار ابنتي، وأولئك الأطفال الذين قضوا نحبهم، بسبب إهمال الأطباء، وفقر بعض الآباء، وعدم توفير الأدوية اللازمة؛ إلا أن السبب الرئيس هو غياب الدولة وقلّة الاهتمام بالمرافق الصحية. ومازال الأمر مستمراً، بل حدِّث ولا حرج في هذا الأمر الذي يدمي العين ويبكي القلب. أتذكر أنني يومها لم أستطع حصر من توفي، لأنني كنت في وسط المعمعة.


استيهامات الأب

أحبت تعز، وفضلت الحياة في جوها الرومانسي الحالم.كنت في بداية حياتي العملية، حين التقيت بلقيس ثانية، وقد قضيت وقتاً طيباً في المدرسة التي أعمل فيها. أخذت الإذن من سكرتارية المدرسة، ومضيت. كنا قد تواصلنا عبر الهاتف في الصباح، واتفقنا على أن نلتقي في الصيدلية 


أود أن أشير هنا إلى أن حب بلقيس لتعز، جاء من استيهامات عبدالولي القصصية، حيث حضرت تعز في كتابات محمد عبدالولي كثيراً، وأشهر القصص التي جسدت روح تعز، قصة “وكانت جميلة”، التي استلهم فضاءات أحداثها من أجواء الحياة في المدينة، مجسداً مشاركة المرأة البصرية التي كانت تنزل من جبل صبر حاملة معها الحياة بكل ألقها. وهناك قصص كثيرة أخرى، مثل قصة “عند امرأة”، التي حلمت فيها بتحويل قلعة القاهرة إلى خشبة مسرح

وفضاء مفتوح لمنصات السينما.ومثل والدها، فعلت بلقيس، فقد أحبت تعز، وفضلت الحياة في جوها الرومانسي الحالم.كنت في بداية حياتي العملية، حين التقيت بلقيس ثانية، وقد قضيت وقتاً طيباً في المدرسة التي أعمل فيها. أخذت الإذن من سكرتارية المدرسة، ومضيت. كنا قد تواصلنا عبر الهاتف في الصباح، واتفقنا على أن نلتقي في الصيدلية. بمناسبة الاتصال، بحثت اليوم في “جوجل”، عما إذا كانت هناك معلومات عنها.. متى ولدت؟ ومتى توفيت؟ ألم تتحدث الصحف عن وفاة ابنة رائد القصة اليمنية، وصاحبة أول صيدلية في مدينة تعز، إن لم يكن في اليمن؟ للأسف لم أجد شيئاً من ذلك، سوى رقم الهاتف الذي ذكرته سابقاً، ودعاء حزين من ابنتها في ذكرى وفاتها، على حائطها في “فيسبوك”، وإشارة الكاتب منصور السروري.ذكريات كثيرة أيقظها ذلك اللقاء. أخذت أسأل نفسي وأنبش ذاكرتي. متى رأيتها لآخر مرة؟ وأين كان ذلك؟ لعلني شاهدتها مرة وأنا أمر جوار دار جدها لأمها، كانت تخرج بعض المهملات التي تم الاستغناء عنها. وضعتها في “سوم الحول” المجأور للدار، وعادت إلى عتمة الطابق الأرضي.لو بقيت بلقيس في القرية، كان يمكن أن تكون فلاحة عظيمة، لكن الطب سيخسرها، ويخسرها الكثيرون ممن قدمت لهم الكثير من المعرفة والمساعدة. أحسست بأن هذا هو أول لقائي بها، لأن السنوات تجرف كل شيء من الذاكرة. ما أمرها وأقسى سيفها!


اللقاء الأخير


على الرغم من أنني رأيتها لأول مرة بعد عمر، إلا أنها صورة من الوجوه التي ألفتها من ألف عام. قلت في نفسي: لعلها تشبه خالتها! لا.. ولكن ربما! وربما جدتها لأمها أو عمتها.. لا أدري، هي واحدة من هذه الوجوه، خليط مسبوك بعناية فائقة. سألتني عن بعض الأخبار والحوادث الأخيرة: مثل أخبار الأهل والقرية. وكلما سمعتها تناهت إلى قاع سمعي أصوات عميقة اعتدت على سماعها، لعلها أصوات الأبطال الذين يضجون في روايات عبدالولي، وللحظة ذكرتني بـ”سلمى”، بطلة قصة “الأرض يا سلمى”، و”هند”، بطلة قصة “الغول”. تبادر إلى ذهني أنها إحدى شخصيات والدها التي صنعها بدهاء غير مسبوق. كأنها خرجت من هذا النسيج المتفاني في المقاومة، وللتو واللحظة. غاضبة من الأوضاع، متذمرة من التقهقر السياسي والاقتصادي، تدين وتشجب وتعترض.ومما أتذكره أنها حين مرضت ذهبت إليها في أحد المستشفيات بصنعاء، وهي على فراش المرض، تتهيأ للسفر إلى الخارج. كانت لديها إرادة قوية بأنها ستهزم المرض. لم تكن تعرف أنه فقط هيأها للقاء الأخير مع الأهل والأقارب.تحدثنا عن مرضها، وكيف داهمها متسللاً إلى جسدها بخبث، لكني لقيتها كالعادة مهمومة بأولادها ومستقبلهم. وأخذت أطالع في عينيها، فلم أرَ ذلك الإصرار الذي يعتلي جبينها، وللحظة شعرت بأنه قد حل محله ذبول الورد.سرقها المرض دون أن تشعر، فلم تنتبه لـ”الذئبة الحمراء” التي تسللت إلى دمها، إلا وقد أصبحت في مراحلها المتقدمة. وحين وصلني نبأ وفاتها، حزنت لأنها كانت تمتلك من العزيمة والصرامة ما يهد الجبال.المجد والخلود لروحها.