صورة تعبيرية

يطلعك على الثقافات الأخرى.. آثار قراءة الأدب المترجم

يوسف حمدان- عربي21

مما لا شكّ فيه أنّ الأدب المترجم جسرٌ ثقافيٌّ ومعرفيٌّ يتيح فرصةَ الاطلاعِ على الثقافات الأخرى وخصائصها وقيمها واهتماماتها، إلا أنّ المهمّ للغاية هو التعرف على حساسيّة جديدة تجاه الأدب ومقاربات الوجود، وتجاه محتوى مختلف من القيم والعادات وأساليب التعبير، لا سيما أن الذائقة الأدبية هي دائما في مرحلة التشكّل.

فالذائقة في صيرورة دائمة، ويغدو التعرض لأساليبَ متعددةٍ في التعبير ولمقاربات مختلفة للموضوع الواحد غايةً في الأهميّة للوصول إلى ذائقة غنيّة ومركّبة، تعرف أنّ للحقيقة وجوها عديدة، وتتخلى ولو جزئيّا عن المطلقات المركزيّة والحتميّة في النظر إلى الإنسان ووجوده وقيمه.

وفي أطوار تشكّل الذائقة، يخلق التعرّض لنماذجَ مختلفة من الأعمال والمنجزات الأدبيّة والفكريّة فضاءاتٍ واسعةً من المقارنات والتمييزات، حتى لو كان ذلك بشكل ضمنيّ وغير واعٍ، فتصبح الأحكام الجماليّة والفكريّة أكثر عقلانيّة وتعقيدا، ويتجاوز المتلقي تلقائيّا التبسيطَ في قبول الأعمال ورفضها، وفي مقاربة الحياة والوجود.

وفي تلقي الأدب المترجم في اللغة العربية، يُلحَظُ انقسام حادٌ في مواقف المتلقين؛ الأول: قراءة الأدب المترجم مع انبهار مسبق به وإحساس بتفوقه، كونه أدبا عالميّا، ويرافق ذلك عادةً تقليلٌ من قيمة الأدب العربيّ، ليس بناء على خبرة ومراجعة، وأنّما لموقف نفسيٍّ غيرِ مبرر.

الموقف الثاني: العكس تماما، قراءة هذا الأدب مع شيء من الازدراء له، لأنّ البلاغة في ظنّ هذه الفئة من المتلقين أمرٌ خاصٌّ بالعرب وباللغة العربيّة، لا سيّما على مستوى الشعر. وهذان موقفان حادان يُخلّان إخلالا كبيرا بشروط القراءة السليمة والموضوعيّة، الأمر الذي يُبرز وجود حاجة ملحّة للتدرّب على قراءة أدب الأمم والثقافات الأخرى بكفاءة وحياديّة.

وهذا التدرّب على القراءة يبدأ من الاستعداد النفسي المسبق، من أجل دخول هذا العالم وفكّ مغاليقه دون الحاجة إلى التمترس وراء أغلالٍ هلامية ومقولاتٍ جاهزة. ولأنّ هذه المشكلة نابعةٌ أساسا من موقف ثقافيٍّ عامٍ أوسعَ من الأدب، وهو الانبهار بالذات أو بالآخر، فإنّ التدرّب على قراءة الأدب المترجم يتضمّن بالضرورة التدرّب على التعامل مع الذات والآخر على حدّ سواء، باعتبار إنسان اليوم إنسانا عالميا.

الترجمة عموما مفتاح فريد لفكّ مغاليق هذا العالم أمام الذات المحليّة، فهي محفّز وفي الوقت ذاته اختبارٌ لقدرة الإنسان على التفاعل مع منجزات العالم بلغته ولسانه؛ فهي تتضمن بعدين فذّين: تقديم ما في العالم من معارفَ ومنجزاتٍ للأفراد المحليين، والأخذ بيد الإنسان ليصبح إنسانا عالميّا قادرا على استيعاب الكون ومعارفه العامّة ويتفاعل معه تفاعلا بنّاء، أو ربّما ليتمكن من رفضه رفضا عقلانيا مبررا.

وثمّة علاقة جوهريّة بين الترجمة والتنمية على المستوى الثقافيّ، فالمجتمعات والثقافات تنطلق في وجودها بناء على تصوّر ومنظور مركزيّ تحاكم الأشياء من خلاله، ولا بدّ من التعرّف على منجزات الآخرين المعرفيّة والجماليّة لتنتفع بها دون الوقوع في أسر الاختلافات الثقافيّة والحضاريّة، التي تُعدّ سمةً وميزةً فريدة للوجود الإنسانيّ.

في ترجمة طبعة الملك جيمس من الكتاب المقدس كتب المترجمون: "إن الترجمة هي أن نشرع النافذة لكي نتيح للنور أن يدخل، وأن نكسر القوقعة كي نأكل اللب، وأن نزيح الستارة فنرى إلى المكان المقدس، وأن نرفع الغطاء عن البئر حتى نجد الماء ..."‏

تستطيع الترجمة أن تكون أداة فاعلة في المعرفة والاطّلاع والتفاعل الحضاريّ في إطار من القبول للاختلاف، تستطيع أن تقف على منظور جديد وأن تحاكم الأمور من زاوية مختلفة، وهذا يعني الاعتماد على التفاعل أخذا وعطاءً مع المنجزات الإنسانيّة بعيدا عن التمركز المغلق حول الذات.

وقد كان عصر الازدهار العلمي في التاريخ العربيّ الإسلاميّ نموذجا للتفاعل في مناخ من الحريّة الفكريّة، لذلك نجد في ذلك تراثا عربيّا وإسلاميّا على مستوى الفكر والأدب والفلسفة يثير العجب في جرأته، يصعب قبولُ كثيرٍ منه في وقتنا الراهن، بسبب غياب ذلك الأفق الواسع من الحريّة.

قراءة آداب الأمم الأخرى في لغتنا أمر فريد للغاية في هذا المضمار، ذلك أنّه يجعل القارئ أمام تجربة مباشرة تتجاوز أدوات الدفاع الواعية ضدّ الأفكار والقيم الغريبة، فيخفت بشكل ملحوظ حسّ التحدي لها، والرغبة في دحضها، وذلك لأنّها في نهاية المطاف منجزٌ خياليّ مهما كان مستوى تعبيرها عن الواقع، وبغضّ النظر عن مرجعيّاتها المعرفيّة والأخلاقيّة، وهذا يجعل الإنسان يألف غيرَه ومخالفَه، ويصبح أقدر على التواصل الخلّاق مع الآخرين دون أن يعني ذلك تهديدَ هُويّته وقيمه الأصيلة وأفكاره الراسخة.

إنّ آداب الأمم تتضمن العناصر التي تجمع الإنسان في مشترك وجوديّ وأخلاقيّ يتجاوز عن الاختلافات والفروق الفرعيّة، فالأمم جميعا تنتمي إلى الإنسانيّة، وتعبّر بالتالي عن همومٍ وآمالٍ ومخاوفَ متشابهةٍ، فالأدب قادر على وصل الإنسان بالمختلف عنه دون الشعور بالحاجة للاستنفار والتحدّي والرفض.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ حركة الترجمة توسّعت في العصر الحديث بشكل يتجاوز اللغات المهيمنة، سيّما اللغات الأوروبيّة وقيمها الفنية والفكريّة؛ ثمة أصوات غيرُ القوى الاستعمارية، والعالم في ظلّ حركة الترجمة الواسعة والهائلة يقاوم التمركز حول ثقافة واحدة.

وهذا بعدٌ أساسيٌّ في دراسات الترجمة ونظريّة ما بعد الاستعمار، حيث يمكن أن تُعاد موضعة اللغات والثقافات في سياق جديد وواسع. وفي هذا الإطار لم يعد مستغربا النظرُ إلى بعض الأعمال المترجمة باعتبارها أعمالا مرجعيّة في اللغة الإنجليزية (canonical and foundation texts) كالأدب الهندي والصيني والأفريقي.

عندما تُترجم الأعمال الأدبيّة، لا تُنقل نصوصٌ فنيّة ولغةٌ جميلة فحسب، وإنّما تُنقل ضمنيّا رؤى وأفكارٌ وقيمٌ وعاداتٌ وأنماطُ تفكير، يصعب في الغالب نقلُها مادةً نظريّةً مجرّدةً، وتقف دون فهمها اختلافاتٌ ثقافيّةٌ وتاريخيّةٌ وسياسيّةٌ.