صورة تعبيرية

"هجرة العقول".. كارثة تؤرق حاضر ومستقبل اليمن

صنعاء – فارس قاسم :

أياً كان ما ستسفر عنه نتائج الحرب أو المباحثات الهشة التي ترعاها الأمم المتحدة، بين الأطراف المتصارعة في اليمن، فإن ذلك لا يؤثر على قرار ماهر عثمان (٣٥ عاماً) في التماس الرزق في مكان آخر من المعمورة.
ماهر، باحث متخصص في السياسات العامة والإدارة، حاصل على ماجستير في هذا المجال، من المعهد الكوري للتنمية، عام 2015، وهو واحد من عديد أخذوا في التصاعد من العقول والشباب اليمني المتعلم الذي يسعى للحصول على فرصة عمل في أوروبا أو أية دولة أخرى، هرباً من الأوضاع السيئة التي تعصف ببلاده، والدخول المتدنية هناك، ومحدودية الحصول على فرص عمل.

تحتل اليمن مرتبة متقدمة بين الدول العربية التي تصدر عقولها إلى الخارج، والأطباء من أكثر الشرائح هجرة.

وتمتلئ جامعات دول العالم ومستشفياتها ومصانعها وشركاتها ومؤسساتها ومراكزها المختلفة، بالكوادر اليمنية المؤهلة، من أطباء وأكاديميين ومخترعين وأدباء ومهندسين، وغيرهم، يشار لهم بالبنان في المحافل الدولية.
وفي ظل الفوضى المستمرة في البلد منذ أكثر من 8 سنوات، تصاعدت هجرة اليمنيين، وارتفعت أصوات الراغبين بالسفر، بعدما صار بلدهم بيئة طاردة للكفاءات العلمية والعقول المبدعة، أكثر من أي وقت مضى.
ماهر عثمان، أحد هؤلاء الشباب المتميزين، يساعد شباب بلده، منذ سنوات، على تغيير قناعاتهم تجاه الحياة العامة، من خلال تعزيز المشاركة المجتمعية في صناعة القرار العام، وتذليل المشاكل التي تواجه المجتمع في كافة الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن أجل ذلك، ينظم دورات تدريبية، كما يستخدم منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي، لتوعيتهم بعدم اليأس؛ “معشر الشباب، لم نخلق إلا لنجعل المستحيل ممكناً”، على حد تعبيره.
لكن كل شيء، واقعياً، لا يكاد يثنيه عن طموحه من أجل حياة ومستقبل مهني أفضل له ولأسرته، بعيداً عن بلده المثقل بالصراعات.
يقول ماهر، وهو موظف حكومي براتب ضئيل، ويضطر للعمل في المجال الخاص لتحسين دخله، لـ”المشاهد”: “نسقت فعلاً للهجرة، وأنتظر رداً على طلبي.. سأخدم بلدي من أي مكان أستقر فيه”. ويضيف بنبرة حزينة: “حالياً لا أرى أية بوادر للمستقبل الذي نتطلع إليه، المتصارعون أنعشوا ثقافة الكراهية في المجتمع، بدلاً من تعزيز قيم التعايش والمحبة، ويبدو أنهم غير مستعدين لتقديم التنازلات الكافية لتحريك عجلة السلام، وتأسيس أرضية صلبة لمستقبل أفضل لليمنيين”.
يوافقه الرأي، اليمني عمار أحمد، مؤكداً لـ”المشاهد”، أنه لو أتيحت الفرصة له ولكثير من الشباب المتعلمين وأصحاب المهن المتميزة، للهجرة، فلن يترددوا في اقتناصها، من أجل “خلق فرصة جديدة للأطفال، متعلقة بجودة الحياة التي ينشدها كل منا لأطفاله”.
ولا يرى عمار (39 عاماً)، الذي يعمل طبيب مختبرات في مستشفى خاص بصنعاء، أي انفراج حقيقي للأزمة في بلده، موضحاً بالقول: “أيضاً لا نتلقى الاحترام كأطباء، ولا الدخل المناسب هنا. الهجرة المخرج الوحيد”.

 

7 ملايين مهاجر يمني

هاجر قرابة 28 مليون عربي، حوالي 75% منهم، هم من النخبة العلمية والمتعلمين، بحسب بيانات للبنك الدولي ومنظمة اليونسكو، تعود إلى عام 2016.
وتحتل اليمن مرتبة متقدمة بين الدول العربية التي تصدر عقولها إلى الخارج، والأطباء من أكثر الشرائح هجرة.
ومن بين 4 ملايين عربي، تقدم نحو 264.519 شخصاً من اليمن لبرنامج هجرة التنوع الأمريكي المعروف بـ”اللوتري” للهجرة إلى الولايات المتحدة، خلال عام 2018، بحسب تقرير مكتب الشؤون القنصلية الأمريكية.
وبرنامج اللوتري، هو قرعة سنوية للحصول على بطاقة الإقامة الدائمة (البطاقة الخضراء) بالولايات المتحدة.
وتشير الأرقام الرسمية الصادرة قبل اندلاع الحرب الحالية، إلى أن حوالي 7 ملايين يمني مهاجرون ومغتربون في أنحاء العالم، يشكلون أكثر من 28% من إجمالي السكان، و40% من إجمالي القوى العاملة، وارتفع العدد كثيراً خلال الحرب الأخيرة، لكن لا توجد أرقام موثقة.
وتخسر اليمن مليارات الدولارات سنوياً، نتيجة هجرة عقولها، التي تستفيد منها الدول المستضيفة.
وتدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية خلال سنوات الحرب الأخيرة، وارتفعت نسبة البطالة إلى أكثر من 70% حالياً، مقارنة بـ52% قبل الحرب.
وارتفعت أعداد اليمنيين الذين هم بحاجة إلى المساعدة أو الحماية، إلى نحو 24 مليون شخص، منهم 14.3 مليون بحاجة ماسة إلى المساعدات، بحسب أحدث تقرير للأمم المتحدة، أصدرته منتصف فبراير 2019.
واحتلت اليمن عام 2018، المرتبة 178 بين 189 بلداً حول العالم، في مؤشر التنمية البشرية (الإنساني) لمستويات المعيشة، والذي يعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وهي بذلك من أسوأ الدول وفقاً للمؤشر الذي يستند إلى 3 أركان رئيسية، هي: متوسط العمر المتوقع، واكتساب المعرفة، ومستوى المعيشة.
ويتجه معظم ذوي الكفاءات للخليج، حيث يتقاضون رواتب جيدة. ويقول الخمسيني عمر أحمد، الذي يحمل شهادة عليا في مجال الطيران المدني: “تركت اليمن قبل أكثر من 20 عاماً. أنا كابتن طيران أعمل الآن في قطر في شركة طيران كبيرة، وضعي كان سيكون سيئاً لو لم أهاجر”. أضاف لـ”المشاهد”: “أعرف كثيراً من اليمنيين يعملون في الخليج ومختلف دول العالم، أصبحوا مبدعين في أعمالهم”.

أسباب الهجرة

وتمتد هجرة اليمنيين إلى مختلف دول العالم، لقرون مضت، نتيجة عوامل مختلفة، أبرزها الحروب، والبطالة، وضعف أو انعدام القدرة على استيعاب أصحاب الكفاءات، وانعدام التوازن في النظام التعليمي، وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وسوء إدارة الدولة.

القوة الناعمة

الدكتور مروان الغفوري، وهو طبيب وكاتب يمني بارز مهاجر في ألمانيا، وصف الغربة بـ”وطن بارد. ولا أحد قادر على العيش في الغربة إلى ما لا نهاية”، موضحاً أنهم يفتقدون “الحاضنة الاجتماعية، أو رأس المال الاجتماعي. اجتماعك الشخصي في بلدك”.
الغفوري نفى أن يكون الجانب المالي عاملاً رئيساً لهجرته شخصياً، وكثيرين أمثاله، “عندما تعيش في ألمانيا، مثلاً، كبلد مستقر، هناك عوامل أخرى مهمة، بينها الإحساس بالأمن، كرامتك كإنسان، انتظام نمط الحياة، في هذه البلدان تستطيع أن تتخيل وتنظر إلى وضع حياتك وأسرتك على المدى المتوسط والبعيد”.
وحمل مروان الغفوري، الحكومات اليمنية المتعاقبة، مسؤولية هجرة العقول، “لم يكن لديها تصور واضح عن قوتها الناعمة الموجودة خارج اليمن، التي يعادل عقل واحد منها بئراً من النفط، كما كان يقول أحد الزملاء اليمنيين”.
وأكد الغفوري، في حديثه في برنامج تلفزيوني على قناة “بلقيس” اليمنية، على ضرورة وضع استراتيجية واضحة لاستعادة هذه الكفاءات والعقول المهاجرة، “لكن في ظل الوضع الراهن للبلد، من الصعب استعادتها”.
أضاف: “لحظة خروج اليمن من الأزمة الراهنة، ستكون لحظة الصفر، وبالتالي سيطرح هذا السؤال: كيف سيبنى هذا البلد؟ وما هي الكفاءات اليمنية الموجودة في مختلف دول العالم؟”.

المشاهد نت