أرشيفية

الأغنية الوطنية تخفت أمام “الزوامل والشيلات”

تعز- فخر العزب:

الاستماع إلى زوامل أنصار جماعة الحوثي، من قبل أفراد الجيش الوطني، وهم يجوبون الشوارع العامة في مدينة تعز، بأطقمهم العسكرية، صار أمراً مألوفاً.


انتشار هذه الظاهرة أثار التساؤلات عن غياب الأغنية الوطنية، وانحسار الاهتمام بها، سواء من قبل الدولة، أو من قبل الفنانين والمثقفين أنفسهم، وعلاقة ذلك بالواقع السياسي، خاصة إذا ما ربطنا ميلاد الأغنية الوطنية في اليمن بتأثيرات الواقع السياسي لتلك الحقبة الزمنية التي شهدت ميلادها وتطورها.


وارتبطت الأغنية الوطنية في اليمن بالأحداث الوطنية في مسيرة الشعب، والمتمثلة بثورة 26 سبتمبر 1962 ضد الحكم الإمامي شمال الوطن، وثورة 14 أكتوبر 1967 ضد المستعمر البريطاني في الجنوب، كامتداد لحالة المد الثوري العربي آنذاك، وازدادت زخماً عند قيام الوحدة اليمنية في مايو 1991، وهي أحداث زادت من ارتباط اليمني بالانتماء للوطن وهويته العربية.


ومما ساعد على تطور الأغنية الوطنية آنذاك، هو تأثرها بالأغاني الوطنية في بلدان التحرر العربي، وخاصة مصر والجزائر، وزيادة الحراك الثوري المتزامن مع الحراك الثقافي للشعراء والمثقفين الذين كان لهم دورهم أيضاً في حركة التحرر العربي، لتقوم الدولة، خاصة في الجنوب، عقب الاستقلال، بالاهتمام بالجانب الثقافي، من خلال تشجيع الفنانين، وبناء معاهد الموسيقى، وتوثيق الأغاني بالإذاعة والتلفزيون.


لكن الأغنية والقصيدة الوطنية خفتت عقب حرب صيف 1994، لصالح القصيدة والأغنية السياسية التي تعبر عن طرف سياسي ما، ولعل ذلك ارتبط أيضاً بضعف النظام السياسي في اليمن، الذي انهار بشكل كامل مع قيام ثورة فبراير 2011، وانقلاب الحوثيين على الدولة في سبتمبر 2014، وارتفاع صوت الزوامل الحوثية التي تحمل ثقافة الموت بدلاً عن ثقافة الحياة.


ويرى الشاعر عبدالحكيم الفقيه، في حديثه لـ”المشاهد”، أن الأنشودة، أو الأغنية الوطنية لا تموت، بل تخفت وتبهت حسب الظروف السياسية، فحينما كانت الأوضاع ملتهبة ضد الاستعمار الأجنبي وركائزه المحليين في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، حين اندلعت ثورات شعبية، ولدت أناشيد وأغنيات وطنية ألهبت حماس الجماهير، وعندما انحرف مسار الثورات، وسيطرت الدكتاتورية والفساد، خفت النشيد، وبلغت درجة الاستهتار حد استقبال المستعمر بالورود، بل أعلن أحد البلدان العربية عن مسابقة لكتابة ولحن نشيد وطني يخلو من الحماسة والفخر.


ويضيف الفقيه: “استعادت الأناشيد والأغنيات الوطنية عافيتها وزخمها مع اندلاع ثورات الربيع العربي، لكن الموجة كانت موجة دينية، فظهر النشيد العاري من الدثار الموسيقي، فالموجة معادية للطرب والموسيقى، والاتكاء على وهم التحريم وهيمن سلف السنة وسلف الشيعة، ودخلا في مرحلة اقتتال وتطاحن في اليمن”.


ومع تدشين الحرب، ظهرت الزوامل، وهي نتاج القتل والحرب والموت والجهل، وانكفأت الأنشودة الوطنية والأغنية العاطفية. وبعد احتلال الإذاعات والقنوات من قبل الانقلاب، لم يعد للنشيد، أو الأغنية أي تواجد، سوى التواشيح الدينية والإنشاد الطائفي وزوامل الجهل والعنجهية المعممة والمفروضة قسراً تحت قوة السلاح، بحسب الفقيه.


غياب المشروع الوطني لدى القيادة السياسية في اليمن، تجلى في إهمالها للواقع الثقافي في البلد، وتهميشها للمثقفين والفنانين الذين كان لهم بصمتهم في النضال من خلال سلاح الكلمة، ويظهر ذلك جلياً في حالة الإهمال الذي يمارس بحق ملحن النشيد الوطني الذي يعاني من المرض دون أن تلتفت إليه الدولة، وهذا الحال ينطبق على عشرات الفنانين والشعراء. ولاشك أن هذا الإهمال انعكس على حضور الأغنية الوطنية التي غابت بعد أن وصلت مراحل متقدمة عقب ثورتي سبتمبر وأكتوبر والوحدة بين الشطرين.


فالأغنية الوطنية، ومعها كل أشكال الفن والأدب، ما هي إلا ثمرة من ثمار المشروع الوطني، ومرآة يُرى من خلالها وجودُه من عدمِه، كما يقول الشاعر يحيى الحمادي لــ”المشاهد”، مؤكداً أنه عند غياب المشروع الوطني والقيادة التي تسعى إلى تحقيق هذا المشروع، فمن الطبيعي أن يتراجع الفن وتتدهور الذائقة الجمعية للجمهور، إذ إن الفن لا يمكنه أن يطير بجناح واحد، هذا إن كان ما يزال يملك جناحاً، وإنك لو مررت بذاكرتك على أية حقبة ذهبية من تاريخ الدول وتاريخ عظمائها، لوجدت الفن هناك، واقفًا على صرحه الذهبي، إلى جوار التجارة والصناعة ومختلف مجالات الحياة.


ويستدرك الحمادي، قائلاً: “بالمقابل فإنه من الطبيعي -والحال هذه- أن تزدهر “الزوامل”، وتصبح الأوسع انتشارًا، بل تغزو بفاعليتها وحماسها حتى من يخالفونها في ما تَحتويه وتُمرره من أفكار، ذلك أنه قد تحقق لهذه الأعمال مشروعٌ واضحٌ، ووجدت حاضنًا وراعيًا لجودتها وسعة انتشارها”.


الواقع السياسي المرتبط بمصالح الأحزاب والفئات والجماعات، انعكس على غياب، أو تغييب الحس الوطني، وبالتالي غياب معاني الوطنية والانتماء عن وجدان الشعب، وهو ما انعكس على الواقع الثقافي الذي برزت فيه القصيدة السياسية، وتوارت القصيدة الوطنية، بحسب الحمادي، وهو ما يؤكده الفقيه، الذي يرى أن القصيدة السياسية هيمنت على القصيدة الوطنية بسبب طغيان المصالح السياسية الفئوية والحزبية والطائفية، على حساب الوطن الكبير الذي لم يعد عروة وثقى، ولم يتم الاعتصام بحبله.


غياب الأغنية الوطنية المفعمة بقيم الحب والسلام والانتماء للوطن، وانتعاش الزوامل التي تنادي بثقافة الموت والانتماء للجماعة، هو انعكاس طبيعي لواقع النظام السياسي في البلد، والذي يقع على عاتقه الاهتمام بالواقع الثقافي وبالمثقفين، ونشر ثقافة الانتماء للوطن، وتقديس النشيد الوطني، وإعادة الاعتبار للأغنية الوطنية.

 

المشاهد