مأزق الفاشي الأخير

ثمة قصة تجري على هذا النحو: مرت سمكة كبيرة على مجموعة أسماك كانت تعوم في حوض مياه. قالت السمكة الكبيرة "صباح الخير، كيف هو حال الماء اليوم؟"؛ وما إن انتقلت السمكة الكبيرة إلى مكان آخر حتى تساءلت سمكة صغيرة قائلة "لم أفهم شيئا، ماذا تقصد الجدة بالماء؟".

 

تُستدعى هذه الأمثولة، أكاديمياً، عند الحديث عن المسلمات الكبرى كالجمهورية والديموقراطية، على وجه الخصوص حين الإشارة إلى الخطر الكامن الذي يحيط بهذه المسلمات.

 

تعرضت الجمهورية، في النسخة العربية، لمتتالية من التخريب البنيوي على مر الأيام. لنكن أكثر دقة: الانطلاقة الأولى للجمهورية العربية كانت هي لحظة التخريب الأولى لها، داخل شكل للجمهورية قيد التفريغ عاشت أجيال عربية عديدة بطريقة ما وصولاً إلى "الساعة العربية صفر"، كما هو الوصف الألماني لثورات الربيع العربي.

 

وربما لو تحدث المرء في ثمانينات القرن الماضي عن مخاوفه تجاه الجمهورية لسمع آخرين يقولون "ولكن ماذا تقصد بالجمهورية". تخريب الجمهورية هو جريمة سياسية تمثل نقضاً شاملاً لأي شكل ممكن من التعاقد بين السلطة وشعبها، وهي المسألة العربية الأولى والأكثر خطورة، هي المنشئة لما بعدها من معضلات.

 

كانت فكرة الجمهورية مسلمة شعبية حتى أن أحداً لم يعد يخاف على ضياعها، بما في ذلك في الأوقات الصعبة عندما كانت تتعرض لتخريب متسارع. إدراك الجمهورية كمسلمة نهائية وضع الناس في حالة مستدامة من إنكار حقيقة أنها تتعرض للتخريب البنيوي. فما من أحد كان مستعداً لمواجهة الحقيقة التي تقول إن أفكاره وإحساسه بالجمهورية لم تعد متصلة بموضوعها.

 

لنتذكر هذا الحدث التاريخي: في العام ١٨٣٠ أرسل الملك الفرنسي أهم مهندس في بلاطه إلى إنجلترا لمعاينة القطار الذي يتحرك بين مانشيستر وليڤربول. سافر المهندس على متن القطار ذهاباً وإياباً لمرات لكنه في نهاية المطاف كتب إلى الملك "إنه أمر فظيع، هذا الشيء لا يعمل ولا يتحرك". كان المهندس محاطاً بمسلمات حسابية وهندسية دفعته لنتيجة مذهلة: فالقطار الذي سافر على متنه أكثر من مرة هو قطار لا يتحرك البتة.

 

الساعة العربية صفر، أو الربيع العربي، هي اللحظة التي أدركنا فيها حقيقتين قديمتين لأول مرة: أن القطار يتحرك، وأن الحياة التي تعوم فيها الأسماك اسمها "الماء". إذ وجد الثوار أنفسهم أمام شكل جديد للدولة لم يعد من شيء يصله بالجمهورية. فقد استطاع الضباط الأحرار، أو ضباط وجدة في النسخة الجزائرية، عبر عملية مستدامة من التخريب البنيوي إنتاج ذلك النوع القاتل من الدولة الذي شاهدناه في صواريخ القذافي وبراميل الأسد ودبابات السيسي بعد سبعة عقود من ميلاد الجمهورية العربية.

 

على أن تعاقداً آخر جرى تأسيسه كبديل للجمهورية: السلطوية القاهرة نظير توفير الخبز.

 

مرت أزمنة كثيرة وصفت فيها تلك السلطوية القاهرة، التي أدارها العسكر، بالجمهورية. وفي زمن ما، زمن آبائنا، كان ممكناً لذلك التعاقد أن يستمر، فلم تكن الحياة قد تعقدت على النحو الذي هي عليه الآن. مع مطلع العقد الثاني من هذه الألفية الفائقة سقط ذلك التعاقد البديل سقوطاً حتمياً وآلياً. فقد أحاطت السلطوية نفسها بمستويات معقدة من الفساد والفشل جعلها في نهاية المطاف غير قادرة على أن تذهب في تعاقدها بعيداً: أن توفر الخبز نظير امتلاكها لكامل السلطة. كما أن الخبز، هو الآخر، أخذ شكلاً أكثر تعقيداً. بالنسبة للجيل Y، الذي ولد بعد العام ١٩٨٠، أو الجيل Z، وهم المولودون بعد ١٩٩٧، صار للخبز معنى مركب يمتد من الحرية الفردية إلى الثراء الفردي.

 

في نهاية المطاف تحسس الأبناء جمهوريتهم ولم يعثروا عليها، وحدثت المواجهة الحتمية بينهم وبين النظام السلطوي الذي حل محل الجمهورية ثم عجز عن رعاية تعاقداته كما فعل مع الآباء.

 

تقدم الجزائر مجسماً مكتملاً لتلك العلاقة. فالضباط الذين قدموا من بلدة "وجدة" المغربية وطردوا المستعمر من أرضهم، قبل نصف قرن، قادوا الجمهورية إلى مكان مجهول تاركين الأناشيد والأعلام. كانت انتخابات ١٩٩١ اختباراً لذلك الغياب، وكما يجري في كل جمهورية زائفة فإن أي عملية تصويت حرة تؤدي إلى حرب أهلية. انتهت جمهورية بومدين إلى مواجهة حتمية بين رجاله، وكان بوتفليقه أحدهم، وشعبه.

 

ولد غالبية عرب اليوم بعد الثورة العربية الأولى، تلك التي آضت إلى النسخة الأولى من الجمهوريات. لم تعرف تلك الأجيال سوى الجمهورية، وكانت الجمهورية كنظام سياسي مسلمة ختامية. بعد عامين من الثورة الأم وضع الضباط الأحرار رئيس مصر في بيت للدجاج، وتقرر أن لا عودة إلى الحياة النيابية.

 

لا جمهورية بلا نظام برلماني، وإلا فقدت الجمهورية معناها كتعبير جماهيري. ما حدث للجمهورية في مصر حدث في سائر البلدان، وصار الضابط الأكبر أخاً أكبر. وصف البرادعي، في ٢٨ يناير ٢٠١١، الانتفاضة التي رآها أمامه ب"ثورة ضد نظام عمره ٥٨ عاما". عاد البرادعي إلى لحظات التخريب الأولى التي طالت الجمهورية ليلة إشهارها في ال٢٢ من يوليو ١٩٥٢. أخذت الجمهورية العربية البداية نفسها ودخلت في المأزق نفسه في البلدان كلها.، فالجنرال الذي أعلن تأييده لثورة اليمن، السلال، وضع شرطاً لقاء اعترافه بتلك الجمهورية: أن يكون رئيساً لها.

 

ذهب رجال السلال يلحقون ضرراً متتابعاً بتلك الجمهورية الجنينية مع الأيام، وبعد نصف قرن صار من غير الممكن تمييزها عن الملكية الإمامية في صورتها الأكثر بؤساً. شوهدت تلك الجمهورية وهي تسلم نفسها، بلا حرب، للإمام الجديد. أمام هو فوجدها شديدة الشبه بمملكة جده، حتى إنه وصف ذلك التشابه بالقدر الإلهي. الصورة نفسها حدثت في ليبيا وسوريا، فقد وجد المتظاهر العربي نفسه أمام قوة قاتلة شديدة الشبه بالاستعمار في الأيام التي سبقت إعلان الجمهورية الأولى.

 

الخطاب الثوري الأجد، القادم من الجزائر، يتحدث عن الجمهورية الثانية، وهو تطور نوعي في رؤية الإنسان العربي للمشكلة الجوهرية، تلك المتمثلة في الجمهورية المغشوشة، بعد سنوات طويلة من إنكار الحقيقة. شاهدنا في تاريخنا الحديث كيف أن الجمهورية العربية كانت هي المعضلة العربية الكبرى، ذلك أنها لم تكن في حقيقتها دولة ولا جمهورية. سبق لهيكل أن شرح هزيمة حرب الأيام الستة بالقول "ذلك ما يحدث عندما يكون لديك نظام لا دولة". وهو اعتراف ساهٍ من رجل عمل كل ما في وسعه لبيع النظام العسكري بوصفه دولة لكل الناس.

 

لم تكن الهزيمة العسكرية هي المأزق الوحيد الذي علقت فيه الجمهورية الأولى/ النظام. فنظراً للتكوين العصابي للنسخة الأولى من الجمهورية فقد خاضت تلك الجمهوريات صراعات بينية أخذت طابعاً كوميدياً في أحيان كثيرة كما حدث، قبل عشرة أعوام، مع مصر والجزائر أثناء التصفيات المؤهلة إلى كأس العالم.

 

دخلت الجمهوريات في متتاليات من أزمة الشرعية دفعتها لطرح نسخة زائفة من الديموقراطية. شاهدنا بوتفليقه يبدأ حياته الرئيسية بالمشروعات الكبرى، كما يفعل السيسي حالياً، لمعالجة مأزق المشروعية السياسية.

 

دعونا نقتبس من ماركيز في وصفه لمشاريع الجنرال بينوشيه في تشيلي: كان يفعل ذلك ليطمس معالم الجريمة. على أن لا شيء قادر على طمس جرائم سياسية فادحة مثل تزييف الجمهورية وبيع ديموقراطيات زائفة في الأزمنة المفتوحة.

 

*نقلاً عن صحيفة الاستقلال

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص