تمثل الدولة في المجتمعات، التي أخذت طريقها نحو التطور والاستقرار، جهازا سياسيا قانونيا، ينظم تلك المجتمعات، ويضبط إيقاع صراعاتها السياسية، بين قواها الاجتماعية والسياسية المختلفة، بصورة حضارية وبأدوات قانونية. بيد أن الدولة في اليمن، كانت ومازالت هي التي يدور حولها الصراع السياسي، وهي ذاتها التي ابتلعتها سلطة الأقلية العصبوية، بتحالفها مع القبيلة والعسكر، لتتحكم في الثروة والقوة، لتسير الشعب اليمني، وفقا لمصلحة اللوبي المسيطر على مفاصل السلطة. كما أنها سعت جاهدة للحيلولة دون انتقال اليمن، من الدولة العسكرية القبلية الشمولية، الخاضعة لسيطرة الفرد والأسرة والمنطقة، إلى دولة المواطنة والديمقراطية التعددية، دولة لكل مواطنيها اليمنيين في الشمال والجنوب.
لكننا للأسف الشديد، نجد أنفسنا اليوم، عائدين للمربع الأول، الذي ناضلت من أجله القوى السياسية والاجتماعية الوطنية، منذ خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، المتعلق بقضية بناء الدولة اليمنية المؤسسية الحديثة. وليس هذا فحسب، فآمال اليمنيين في الخروج من دائرة التشرذم والتمزق، للوحدة والشراكة، ومن التخلف والحروب العبثية، للتنمية والاستقرار، ذهبت أدراج الرياح. ويعزو ذلك لاستبدال الأقلية المغتصبة للحكم الدولة بذاتها، واختزالها بجيش وأمن، يخدمان مصالحها، ويقمعان المعارضين السياسيين، قاصرة دور الدولة في القهر خارج الدستور والقانون، وضاربة عرض الحائط، بوظائف الدولة المتسقة مع المفهوم السياسي الحديث لها، المتعلقة بدعم أسس الاستقرار السياسي والاجتماعي، وبالحفاظ على النظام العام، وتماسك المجتمع، ووسيلتها في ذلك ضرب التكوينات الاجتماعية والسياسية الوطنية، وإثارة الهويات اللاوطنية؛ لتستقوي بها على المشاريع السياسية للدولة الديمقراطية المنشودة.
تجلت صورة الحكم العصبوي في اليمن، منذ تولي المخلوع علي عبدالله صالح السلطة، عام 1978، وحتى تحالفه مع الحوثيين، والقيام بانقلاب 21 سبتمبر 2014، وجر اليمن لأتون حرب أهلية، وتدخل عسكري خارجي، في هيمنة الفرد والأسرة والعشيرة على الدولة، والنيابة عنها في الخطاب والممارسة، وتسخير مؤسساتها ومواردها، في تحشيد المليشيات القبلية والمناطقية، في حروب داخلية، صبغت بصبغة جهوية، تستنفر قبائل شمال الشمال على الدوام، بدءا من حرب 1994، مرورا بحروب صعدة الستة، وصولا لحرب الانقلاب على المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني، الأمر الذي أنتج سياسات معادية لمصالح الشعب اليمني، وواقعا استبداديا تسلطيا، جعل الدولة في حالة تنازع بين العسكر والقبيلة. وحين صعد المخلوع علي عبدالله صالح لسدة الحكم، كان تعليمه محدودا، ولم يكن من خريجي الكليات العسكرية، أو منتميا لقوى الحداثة من الضباط العسكريين، كالشهيد المرحوم إبراهيم محمد الحمدي، والذين أرادوا بناء دولة، قد لا تكن ديمقراطية، لكنها تستحوذ على القوة، وتحتكر استخدامها، فيما مشائخ القبائل، الذين دخلوا في صراع معهم، أرادوا بقاء الدولة قبلية، يستطيعون من خلالها النفاذ إليها، وتحقيق مصالحهم والحفاظ عليها.
لأن المخلوع علي عبدالله صالح، لم يكن يمثل طموح النخبة العسكرية، التي واجهت النخبة القبلية، فقد أنشأ نظاما طبقيا حاكما، مركبا من كبار الضباط العائليين، المنتمين لمنطقة جغرافية واحدة، وكبار مشائخ القبائل المنتمين لذات المنطقة الجغرافية، والذين منحهم المخلوع علي عبدالله صالح، وسائل القوة والنفوذ، ومن خلالهم وعبرهم، استطاع توظيف القبيلة لصالحه، كتنظيم حربي ذي مهام سياسية واقتصادية واجتماعية، مقابل عطايا وهبات مالية وعقارية، أو وظائف وأسلحة ورتب عسكرية. كما قاد في الوقت نفسه، عملية تفكيك وإضعاف للقبيلة، التي رآها تشكل خطرا عليه، من خلال خلق وتفريخ مراكز نفوذ لوجاهات قبلية مغمورة، ودعمها بإمكانيات الدولة، لتنافس شخصيات قبلية عريقة، بغية إخضاعها وقبائلها لهيمنته. ولذلك حرص المخلوع علي عبدالله صالح، على تغذية الحروب القبلية، ومنع الدولة من التغلغل في المجتمع القبلي. فمؤسسات الدولة، كأقسام الشرطة والمحاكم وغيرها، ليس لها تواجد في حوالي 70% من المديريات الريفية، وانحصر تواصل الدولة مع أبناء القبائل القاطنين فيها والعكس، بمشائخ القبائل الذين حازوا على امتيازات من النظام، فاحتل بعضهم مواقع عليا في الجهاز الإداري للدولة، وانخرط البعض الآخر في الشأن الاقتصادي، وقدم الدعم له بإعفائه من الضرائب أو الجمارك، فأصبحوا غير محتاجين لأفراد القبيلة، وسلطتهم معتمدة على النظام، وليس على القبيلة، ما مكن المخلوع علي عبدالله صالح من شراء ولاءات المشائخ، وتكوين تحالفات معهم، مستغلا قضايا الصراع التي زرعها بين القبائل ليتم من خلالها تجنيد أفراد القبائل لضرب خصومه والانتقام منهم. فلكي يثأر من آل الأحمر، الذين أيدوا ثورة 11 فبراير2011، نسق مع الحوثيين لدخول عمران عن طريق قبيلة سفيان، التي كانت في صراعات مستمرة مع قبيلة العصيمات، التي هي قبيلة آل الأحمر، كما حيد كثيرا من القبائل من الوقوف معها لتحارب العصيمات منفردة، وتكن النتيجة سقوط عمران بيد الحوثيين، وتشريد معظم الوجاهات القبلية لبيت الأحمر، التي أيدت ثورة 11 فبراير، لخارج الوطن، وتدمير منازلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
كشف انقلاب 21 سبتمبر 2014، أن لدى اليمنيين وحدات عسكرية منشأة من قوتهم لتحمي سلطة المخلوع علي عبدالله صالح، متخمة بالعدد والعتاد، لا بولائها للوطن، ودفاعها عن الثوابت الوطنية، وساهمت بشكل كبير بحكم تركيبتها الفئوية، وعقيدة ولائها للفرد والقبيلة، في إيصال اليمن لمصاف الدول الفاشلة، وقضت على حلم اليمنيين، في إدارة صراعهم السياسي بطرق سلمية، ووسائل عصرية، وفجرت صراعا دمويا، الهدف منه ليس إعادتنا للتشطير، الذي تجاوزناه بالوحدة اليمنية، بل لحكم دويلات المناطق والقبائل والمذاهب، والتي مافتئ الحكم العصبوي الفردي، يهددنا بها، بعد أن قضى على ميراث دولة الشهيد إبراهيم الحمدي، الذي بدأ في وضع المداميك الأولى، لدولة المواطنة المتساوية، وقضى بعد الوحدة، على ميراث الجنوب، الذي كان قد أصاب تنظيمات ما قبل الدولة بالضعف، وبنى دولة تحتكر القوة والنظام السياسي.
هاهم اليمنيون اليوم، يدفعون من حياتهم ثمنا باهظا، دما وجوعا، ودمارا وتشريدا، عاقدين العزم على ألا يستقر لهم بال، ويهدأ لهم حال، حتى يستعيدوا وطنهم المنهوب، ودولتهم المسلوبة.